أحلام سعاد المشروعة
-1-
فى كل مكان هناك من يتربص بالأحلام، ويتخصص فى قتل البهجة، وفى جعل الحياة تتشبع بكآبة راسخة، وهذه موهبة سوداء تجعل من يمتلكها أكثر تحجرا وانغلاقا، إنه تراث مأساوى قديم، يغرقنا فى أحزان وأوجاع البشر، هؤلاء البشر الذين تكمن خطيئاتهم فى أنهم تجرأوا على أن يحولوا الحلم إلى واقع.
-2-
«سعاد» ذات 61 عاما، التى تعيش وحدها بعد وفاة شقيقها، فى منزل متواضع، بحارة اليهود فى منطقة الجمرك بالإسكندرية، ولا أحد يرعاها منذ ذلك الحين، اعتادت الخروج يوميا من المنزل للسير وحدها فى الشارع، وهى لم تتسبب أبدا فى إيذاء أحد من قبل، وجدت أن أحلام اليقظة هى أحد أفضل الطرق للخروج بأفكار جديدة لقتل الوحدة والعصف برتابة حياتها، وقررت أن تسمح لعقلِها بالتجوال فى الخيال بشكل حر وبدون قيود، حلمت بالمستقبل الذى ترغب به، فأطلقت لمخيلتها العنان للتفكير فى حياتها، وبالطريقة التى ترغب أن تصبح عليها، ومنحت لنفسها الحرية التامة لدمج خيالاتها الإيجابية.
-3-
فأحلام اليقظة هى الرغبات التى لا تستطيع تحقيقها على أرض الواقع، وهل يعنى كونها مجرد أحلام، لا يمكن أن تصبح حقيقة واقعة؟!، فكّرت سعاد فى حلم اليقظة الطازج، ونظرت كيف يمكنها تحويل تلك الأحلام إلى واقع، فأخذت تعمل على إيجاد وسيلة لجعل هذه الأحلام حقيقة حتى تمتلئ روحها بالندى.
وقد استطاعت سعاد التمييز بين الواقع والخيال. ولم تكتف بالتخيل بل أصرت على تحقيق حلم طال انتظاره على مدى عمرها كله، حاولت سعاد تخيل كل الأشياء التى قد تجعلها سعيدة ونسجت منها قصة وحكاية وموضوعا، وجعلت شخصياتها ومواقفها إيجابية.
-4-
قامت بالذهاب للكوافير، صففت شعرها، ووضعت مساحيق التجميل على وجهها، وارتدت فستان الزفاف والطرحة، وقبل ذلك بعدة أيام حجزت قاعة للأفراح ودفعت التكلفة كلها مقدما، خرجت سعاد من الكوافير وسارت بفستان الزفاف فى منطقة محطة الرمل وحيدة، حيث وجه أحدهم لها سؤالا: «فين العريس يا عروسة؟»، فلم ترد: «مافيش عريس»، مما أثار تعاطفه معها، وقام بالمشى بجانبها، وقام كل أهل الشارع بالغناء لها وعمل زفة حتى وصلت إلى قاعة الأفراح، وجلست بجوار الشخص الذى لا تعرفه والذى تطوع للجلوس معها فى الكوشة.
انتهى العرس ورجعت سعاد إلى بيتها وحيدة بدون عريس، لكنها كانت منتشية بتحقيق حلم يقظتها.
عندما نسجت سعاد قصتها غاب عنها رسم بعض الشخصيات الذين يضمرون الأذى، ويغضبهم تحقيق ذلك الحلم الرومانسى.
بعدما انتشرت صور «سعاد» على «فيسبوك»، ولقيت اهتماماً إعلامياً، تم إيداعها إحدى دور للمسنين.
-5-
ستصبح «سعاد» فى هذه الدار شخصية غرائبية منبثقة من عوالم المجانين الخيالية، فى وسط لا يحركه إلا شغف السخرية والتهكم، وستنعزل لسنوات عديدة قادمة فى مغارتها الإجبارية، صانعة عوالم من الأعراس، ولن نعلم أبدا مدى المعاناة الجسدية والنفسية التى ستعيشها ومقدار النبذ الذى سيلحق بها، فقمرها سينحنى بارتجاف فوق حلمها المنكسف، ستجلس فى فراغ الزمن، لكن يكفيها أنها حققت ما كانت تصبو إليه، وما كان محركا لمنحها قبلة الحياة حتى لسويعات قليلة. مرآتها الصغيرة ترمق حلمها الحالى المتراقص بلون الظل والفضة، ويمتد ليلها بلا ونيس يبعث فى جسدها الفىء الحقيقى، وليس المتخيل.
-6-
يا سارقى الأحلام، الحلم يعود من أعماق النهر ومن بين شعاع النجوم، وزخات المطر، ورفرفة أجنحة الطيور، والقلوب المتوقدة، وريح الليل، وغيوم الدخان، وخلف النوافذ والشرفات، وروائح الألم والمسك وطيات السحاب، الحلم يرحل ويعود مثل الإيقاعات الحيّة.