محمود عبد العزيز.. "الساحر" صاحب التركيبة الفنية الجريئة

"يمتاز بموهبتين نادرتين الكوميديا والتراجيديا، ويستطيع التنقل بينهما داخل نفس المشهد".. لم يكن ذلك مجرد انطباع من المخرج رأفت الميهي عن النجم الراحل محمود عبد العزيز، بل وصف يلخص قيمة موهبة الممثل المصري الذي حلت يوم 4 يونيو ذكرى ميلاده الـ79.

تتجدد ذكرى ميلاد الفنان الكبير محمود عبد العزيز، وتعود معها مشاعر التقدير والدهشة لرحلة فنية استثنائية، لم تأت عفوية ولا متسرعة، بل صيغت بعناية، وبحث، وتجريب دائم، في مشوار طويل صنع فيه أيقونات فنية حقيقية، سواء في السينما أو في الدراما التلفزيونية، شخصيات لا يمكن نسيانها، وتنوعات لا يشبهه فيها أحد.

الثقة التي كان يتمتع بها محمود عبد العزيز، كانت تنبع من ثقافة واسعة، وجرأة على المغامرة. نشأ في مدينة الإسكندرية، في بيت مصري بسيط، بين الحياة الشعبية والبحر والسينما وسافر إلى أوروبا ليعمل في مهن بسيطة، هذه الخلفية منحته نوعًا من التأمل الدائم في البشر، لذلك لم يكن غريبًا أن يحمل هذه الصور إلى الشاشة.

لقب "الساحر" الذي التصق بمحمود عبد العزيز بعد فيلمه الذي يحمل الاسم نفسه والصادر عام 2002، يأتي تتويجا لقدرات ساحر حقيقي، استطاع أن يخرج من كل شخصية يؤديها بكنز من التفاصيل والدهشة.

ثلاثية رأفت الميهي

رأفت الميهي، واحد من أكثر من تعاملوا مع محمود عبد العزيز في نوع سينمائي لا يمكن تصنيفه بسهولة، خليط من السريالية والكوميديا السوداء، أنتجت أفلام "سمك لبن تمر هندي"، "السادة الرجال" و"سيداتي آنساتي"، وكلها أعمال لا تزال محل تحليل حتى اليوم، لما تحمله من أفكار تتجاوز زمنها.

بدأت ثلاثية محمود عبد العزيز والميهي بفيلم "السادة الرجال" عام 1987، إذ جسد الممثل شخصية "أحمد عبد العال" المتزوج من "فوزية" المرأة الجميلة، والتي تعاني من سطوة زوجها الذي يمثل السلطة الذكورية.

الفيلم يناقش مشكلات اجتماعية وزوجية، ويعالج مفاهيم مجتمعية خاطئة، لكن بشكل فانتازي، إذ تتحول الزوجة إلى رجل عن طريق عملية جراحية لكي تتخلص من نظرة المجتمع إلى المرأة وتعامله معها على أنها كائن ضعيف، فيما لا يجد الزوج مفرا في نهاية الفيلم سوى مواجهة العبث بمثيله، والذهاب إلى المستشفى لكي يتحول إلى أنثى، لكي يحافظ على استقرار الأسرة ومستقبل أبنائهما.

استثمر الثنائي نجاحهما بفيلم "سمك لبن تمر هندي"، وشاركت في بطولته أيضًا معالي زايد التي كانت متواجدة في الفيلم الأول، وواصلوا المغامرة الثالثة بفيلم "سيداتي آنساتي"، والذي قال عنه الميهي في تصريحات صحفية إنه لا يتخيل أحدًا غير محمود عبد العزيز في هذا الدور، وأنه يذكره برشدي أباظة، ليس في الشكل، بل في الحضور.

رأفت الهجان

النجم الذي أبدع في أفلام الفانتازيا وبدأ حياته بطلًا لأفلام رومانسية، أظهر وجهًا مغايرًا مع المخرج يحيى العلمي في مسلسل "رأفت الهجان"، المأخوذ من واقع بطولات المخابرات المصرية، مقدمًا شخصية مليئة بالتفاصيل.

كان يهتم بكل شيء، من ملابس الشخصية وألوانها، إلى شكل النجوم على أكتاف الضباط، وشكل السجائر، وكان يراجع السيارات المستخدمة في التصوير ليضمن تطابقها مع الفترة الزمنية، حسبما يؤكد الإعلامي عمرو الليثي في تصريحات صحفية له عن كواليس عمله مساعد مخرج في المسلسل المكون من 3 أجزاء، مضيفًا: كل هذه التفاصيل لم تكن عبثية، بل كانت تأكيدًا على إيمان محمود عبد العزيز بأن الهجان ليس مجرد دور، بل مسؤولية.

الناقد طارق الشناوي وصفه في أحد مقالاته بأنه أحد أعظم فناني الأداء في تاريخنا، وتحدث عن مشهدين في "رأفت الهجان"، أحدهما يظهر فيه سعيدًا وهو مهزوم، والثاني يبدو فيه حزينًا رغم النصر. هذه التناقضات الوجدانية لا يؤديها إلا فنان بحجم محمود عبد العزيز، قادر على الفصل بين الملامح والوجدان.

الكيت كات

محطات الساحر المميزة شملت أيضًا فيلم "الكيت كات"، المأخوذ عن رواية "مالك الحزين" لإبراهيم أصلان، إذ قدم واحدًا من أجمل أدواره، الشيخ حسني، الرجل الكفيف الذي صار نموذجًا أمام كل الممثلين من بعده لتجسيد شخصيات مماثلة.

قدم محمود عبد العزيز شخصية فريدة، لا تشبه سواها، أداها بخفة دم ومرارة، وحصل بسببها على 5 جوائز من مهرجانات مختلفة، وظلت حتى اليوم من أكثر الشخصيات تأثيرًا في السينما العربية.

في أحد حواراته، قال إن هذه الشخصية كانت حقيقية، تعرف عليها من خلال المطرب سيد مكاوي، الذي أخبره عن رجل اسمه "محسن" يعيش في منطقة إمبابة الشعبية الشهيرة، كان يسير على الطريق ويتحدث بطريقة قريبة من طريقة الشيخ حسني في الفيلم. هذه التفاصيل الصغيرة كانت مفتاح أدائه الاستثنائي.

عبد الملك زرزو

ولأن التجريب كان شغفه، لم يتوقف عن خوض تجارب جديدة، حتى في أواخر مسيرته. في فيلم "إبراهيم الأبيض"، جسد شخصية عبد الملك زرزور، تاجر المخدرات، الذي تحول في أداء الساحر إلى شخصية شبه أسطورية. لم تكن التفاصيل في السيناريو كثيرة، ولكن محمود عبد العزيز بنى من الجملة القصيرة: "زرزور، 78 سنة، خطر على الأمن"، شخصية كاملة من لحم ودم.

أطلق لحيته، وجعل صوته مبحوحًا، وارتدى خاتمًا لامعًا، واختار نبرة تهديد خاصة، وقال عنها في لقاء إعلامي: "زرزور كان شايف نفسه إله الحتة، سيكوباتي يحكم بشرعه الخاص، ولم يمنعه ذلك من أن يقع في الحب"، هكذا تحول الدور إلى علامة في تاريخ السينما المعاصرة.

في ذكرى ميلاده، لا نتذكر محمود عبد العزيز فقط كممثل، بل كصانع شخصيات، ومغامر لا يعرف التكرار، وفنان امتلك الجرأة ليجرب، بوعي تام، ليصبح حالة فنية نادرة، لا تشبه أحدًا.

 

التعليقات