حكاية لطفي لبيب.. فنان أصيل متعدد الوجوه و"مقاتل خطف الأضواء"

لم يكن بحاجة إلى بطولة مطلقة ولا إلى صدارة بوسترات كي يحجز لنفسه مكانًا ثابتًا في ذاكرة الجمهور العربي.. بصوته المتزن، ونظرته العميقة، وحضوره اللافت حتى في الأدوار البسيطة، صنع الفنان المصري لطفي لبيب سيرة فنية وإنسانية تشبهه: رزينة، صادقة، ومفعمة بالدفء. هو المقاتل الذي خاض معركة أكتوبر بسلاحه، ثم خاض معركة الفن بموهبته، فانتصر في كليهما. واليوم، هزمه السرطان ليودع دنيانا عن عمر 78 عامًا، ليترك وراءه ما هو أثمن من الشهرة والنجومية.. يترك أثرًا لا يُمحى.

في هدوء يشبه طباعه، وحضور متزن لا يحتاج إلى صخب، رحل لطفي لبيب، تاركًا خلفه مسيرة فنية وإنسانية عابرة للأجيال.. فالراحل لم يكن نجمًا تقليديًا يسعى للأضواء، بل كان من أولئك الذين يتركون أثرهم العميق في كل ظهور، بصمته الخاصة التي لا تُقلد، وحضوره الذي كان يضيف إلى أي عمل يُشارك فيه صدقًا لا يُصطنع، وإنسانية لا تُشترى.

رحلة محارب

بدأت رحلته الحقيقية مع الحياة قبل الفن، دخول ساحة القتال حين ارتدى الزي العسكري وانضم إلى صفوف الجيش المصري في حرب أكتوبر المجيدة عام 1973، جنديًا في الكتيبة 26، أول كتيبة عبرت القناة، ربما من هناك اكتسب صبره، دقته، ونزعته الدائمة للانضباط. لم يكن الفنان فيه منفصلًا عن المقاتل، بل امتدت روح الوطنية إلى مجمل اختياراته الفنية، فكان واعيًا بدور الفن، ومسؤولًا في ما يقدمه، إذ كان يعرف أن البطولة الحقيقية تكمن في التأثير، لا في المساحة.

فترة ملهمة

 ألهمته فترة تجنيده كتابة مؤلفات فسجل أهم فترات في تاريخ مصر، خلال الحرب التي كان شاهدًا عليها، ليمزج بين بطولته في الجيش المصري وبين موهبته في الفن، وكان لديه أمل في أن يقدمها كعمل فني لكن لم يكتب لها أن يراها على الشاشة فحفظها ووثقها لاحقًا في كتابه النادر "الكتيبة 26"، الذي صدر عام 1975، ليُعد من الشهادات الأدبية القليلة على الحرب من داخل صفوف الجنود.

ودخل مجال التمثيل مبكرًا من خلال مسرح الجامعة بحضور نادر، استطاع أن يُشكّل ملامحه ببراعة في السينما والمسرح والدراما. لم يحتج إلى مقدمات طويلة، بل كان يدلف إلى المشهد بخطوات واثقة، يزرع جملة واحدة أو نظرة أو تنهيدة أو مشهدًا ليبقى في الذاكرة شيئًا لا يُنسى.

لطفي لبيب كان يجيد ما يمكن أن نسميه "فن الحضور الخفي"، يظهر فجأة ليمنح المشهد بعدًا إنسانيًا أعمق، يقلب المزاج العام بلمسة خفيفة، أو يعلّق في الذهن بجملة شعبية صارت مع الوقت على لسان الجميع. لم يكن في منافسة مع أحد، بل كانت منافسته مع نفسه فقط، ومع فكرة أن يكون الفنان صادقًا قبل أن يكون بارزًا.

على الشاشة، لم يترك نوعًا إلا وخاضه، من الكوميديا الساخرة إلى الدراما العائلية، من الشخصيات الشعبية إلى النُخب المثقفة، من السياسيين إلى البسطاء، وجميعهم تعامل معهم بروح الممثل المخلص لفنه، لا الباحث عن المجد، تشارك مع كبار النجوم، لكنك لا تراه تابعًا لأحد بل شريكًا حقيقيًا في بناء العمل.

السفير.. الذي انحاز لفلسطين

في عام 2005، قدّم لطفي لبيب أحد أبرز أدواره وأكثرها جدلًا، عندما جسّد شخصية السفير الإسرائيلي في فيلم "السفارة في العمارة" أمام الفنان عادل إمام. ورغم النجاح الساحق للدور، رفض دعوة لتكريمه من السفارة الإسرائيلية.

وشدد في تصريحات صحفية آنذاك على دعمه المطلق للقضية الفلسطينية، مشيرًا إلى أن تمثيله للدور لا يعني تأييد الشخصية بل تعرية مواقفها أمام الجمهور العربي.

فنان متعدد الوجوه

شارك لبيب في أكثر من 390 عملًا فنيًا ما بين سينما ودراما ومسرح، من بينها "طباخ الريس، أسف على الإزعاج، نمس بوند، صايع بحر، ورمضان مبروك أبو العلمين حمودة".

وتألق في الدراما التلفزيونية بأعمال مثل "الأب الروحي 1 و2، الخواجة عبدالقادر، الرحايا، ونوس" وغيرها.

في قلب الجمهور، ارتبط اسمه بأعمال أحبها الناس، صارت علامات في ذاكرتهم، لا فقط بسبب سياقها الدرامي، بل لما أضفاه لطفي لبيب من صدق خالٍ من أي استعراض. بدا أحيانًا وكأنه أحد أفراد العائلة، أو جارًا تعرفه جيدًا، أو أستاذًا تقف أمامه باحترام. لم تكن شخصياته بعيدة عن الواقع، بل مستلهمة منه، ومعجونة بملح الحياة اليومية.

وخارج الشاشة، كان إنسانًا متواضعًا، يكتب بهدوء كما يمثل، ويؤمن بأن الفن رسالة وليست شهرة. دخل عالم الكتابة بدافع الفضول والإيمان بأن القصص الحقيقية لا تنضب، فكتب من واقع الحياة المصرية، واستوحى من التاريخ الاجتماعي شخصيات تستحق أن تُروى، مؤمنًا بأن الحكاية الصادقة قادرة على الحياة، مثلها مثل الدور الصادق تمامًا.

موقف مصارحة

لم يكن لطفي لبيب يُجيد المواربة، كان صريحًا في حواراته إلى أقصى حد، لا يتبرأ من أدوار قدّمها في ظروف صعبة، بل يواجه الأمر بنزاهة قائلاً: "قدّمت بعض الأعمال الضعيفة بسبب ضغوط مادية، لكني عملت بضمير حتى في تلك اللحظات، لأن لديَّ التزامات تجاه أسرتي، ولم أندم على شيء.

حين اعتذر عن بعض الأعمال التي شارك فيها، فعل ذلك بشجاعة، مبررًا الأمر بظروفه المادية. لم يتظاهر بالمثالية، بل قالها ببساطة: "كنت أعمل بضمير حتى في أضعف الأعمال". كان يؤمن أن الإنسان الحقيقي لا يخجل من التعبير عن ضعفه، طالما حافظ على احترامه لذاته ولجمهوره.

اليوم، ترجل لطفي لبيب عن هذا العالم، لا يودّعه الناس كنجم عابر، بل كوجه مألوف سكن الذاكرة والوجدان، كصوت هادئ اختزن في داخله معاني البطولة والصدق والتواضع. هو فنان عاش ليحكي، ومضى بعدما روى كل ما في قلبه.

بقلوب يعتصرها الحزن، نعت نقابة المهن التمثيلية في مصر الفنان القدير لطفي لبيب، الذي رحل عن عالمنا بعد مسيرة فنية حافلة بالعطاء والإبداع، ترك خلالها بصمة لا تُنسى في قلوب جمهوره وزملائه.

وداعًا لطفي لبيب.. الرجل الذي لم يكن بطلًا في عناوين الأفلام، لكنه كان بطلًا في قلوب من شاهدوه وآمنوا أن التمثيل قد يكون حياة أخرى.. صادقة، نقيّة، وباقية.

 

التعليقات